أمريكا ينتظرها المصير السوفييتي
هل يمكن لأحد أن يتصور من الآن أن تلقى الولايات المتحدة الأمريكية نفس المصير الذي لقيه الاتحاد السوفييتي، وتتفتت إلى دويلات؟
إذا كان أمر مثل هذا يعتبره البعض الآن ضرباً من الخيال على الرغم من الأزمة المالية العالمية التي تهدد الاقتصاد الأمريكي بشكل جاد وخطير، فإن هناك من تنبأ بذلك قبل عشر سنوات..
تصريحات جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي القادم "باراك أوباما" منذ أيام بأن الولايات المتحدة تواجه أزمة كارثية يصعب مواجهتها تصب في هذا الاتجاه، كذلك تقارير العديد من الخبراء الاقتصاديين العالميين، ومنهم البروفيسور أ ليفيه بلانشار رئيس القسم الاقتصادي في صندوق النقد الدولي تحذر من أن هذه الأزمة تختلف عن الأزمات السابقة، وأنها أكثر حدة مما نتصور، فما بالنا لو طرح تفتت الولايات المتحدة منذ عشرة أعوام مضت وأمريكا في قمة قوتها واقتصادها يهيمن على العالم؟
التنبؤ بالأزمة
في عام 1998 في العاصمة النمساوية فيينا انعقد مؤتمر دولي تحت عنوان "الحرب المعلوماتية" حضره أربعمائة مندوب من مختلف دول العالم بينهم مائة وخمسون مندوبا من الولايات المتحدة وحدها، وكان من روسيا البروفيسور إيجور بنارين عميد كلية العلاقات الدولية في الأكاديمية الدبلوماسية ال تابعة لوزارة الخارجية الروسية، وهو واحد من أكبر خبراء الاقتصاد السياسي في روسيا، وقف بنارين في المؤتمر ليلقي كلمته الطويلة التي جذبت الحضور بشدة وأثارت دهشتهم وصيحاتهم في قاعة المؤتمر، خاصة عندما قال إن "الولايات المتحدة ستلقى مصير الاتحاد السوفييتي وستتفكك إلى أجزاء"، والأكثر من ذلك أن بنارين في كلمته في المؤتمر تنبأ بالأزمة الحالية قائلا "ستواجه الولايات المتحدة أزمة م7لية حادة في غضون العشرة أعوام القادمة ستكون هي بداية انهيار الهرم الكبير، وسيأتي هذا الانهيار مسرعا أكثر مما نتصور".
المشكلة في المنظومة
الآن بعد عشرةأعوام من محاضرة البروفيسور بنارين في مؤتمر فيينا سارعت العديد من وسائل الإعلام الروسية والغربية لإجراء حوار مع هذا الرجل الذي يشغل الآن منصب نائب وزير الخارجية الروسي للشؤون الاقتصادية، وفي حوار له مع صحيفة "إزفستيا" الروسية يقول البروفيسور بنارين "ما قلته منذ عشرة أعوام في مؤتمر فيينا لم يكن تنبؤات فلكية بل كان نتيجة دراسات علمية تقوم بها عدة جهات في روسيا وأوروبا، قلت ل8 7م في المؤتمر إن ديون الولايات المتحدة التي لم تكن موجودة عام 1980 تتضاعف بسرعة وإنها وصلت لتريليونين وستتعدى العشرة تريليونات في أقل من عشرة أعوام، ولم يصدقوني آنذاك، ولكن هذا ما حدث.
وقد بدأ الانهيار بالفعل حيث انهار ثلاثة من أكبر خمسة بنوك في أمريكا والآخران على وشك الانهيار وهذه البنوك الخمسة هي عماد الاقتصاد الأمريكي حيث تتبعها معظم الصناديق السيادية والاستثمارية الأمريكية، ومحاولات إنقاذها الآن لن تفلح لأن خسائرها ستقدر بالتريليونات وليس بالمليارات.
وكما نعلم فإن العديد من دول العالم وبخاصة الغنية منها تستثمر ملياراتها في هذه الصناديق الاستثمارية والسيادية، بما في ذلك الصين وروسيا ودول أوروبا الكبي رة، وهذا ما جعل هذه الأزمة تختلف عن سابقاتها لأنها أزمة عالمية بالفعل ويتضرر منها الجميع"، ويقول بنارين "المشكلة الآن ليست في ديون الولايات المتحدة وإفلاس بنوكها فقط، بل في المنظومة المالية العالمية التي وضعت الولايات المتحدة قوانينها في بريتون وودز عام 1944 وكانت هي أول من خرق هذه القوانين. الجميع الآن ينفضّون عن الولايات المتحدة ويطالبون بتغيير النظام المالي العالمي الذي اع تمد على الدولار وعلى الاقتصاد الأمريكي أكثر من نصف قرن مضى".
ويقول بنارين في حديثه "إن الأزمة المالية ستتفاقم بشدة في الولايات المتحدة مع بدايات الربيع القادم، ومستوى البطالة سيرتفع بشكل خيالي والشركات الكبيرة ستنهار الواحدة تلو الأخرى، وقد بدأت بالفعل بعمالقة السيارات التي يحاول أصحابها الآن تحصيل أكبB 1 قدر من الأموال من الدولة وهم يعلمون أنها لن تنقذ شركاتهم وأن السفينة حتما غارقة"، ويضيف بنارين قائلا "هذه الشركات العملاقة تشكل في أمريكا مدناً كبيرة بمئات الآلاف من العاملين فيها مع عائلاتهم والمؤسسات المعيشية والاجتماعية التابعة لهم،
هذا يعني أن مدنا كبيرة بأكملها ستنقطع عنها وسائل المعيشة وتتوقف فيه=D 8 الحياة، ولا يملك المركز الفيدرالي ما يقدمه لها، والرئيس الجديد أوباما لا يملك عصا سحرية وسوف يعلن في الربيع القادم على الأكثر عدم قدرة إدارته على مواجهة الأزمة الكارثية"، ويتوقع بنارين مع تفاقم الأزمة أن تصدر قرارات عشوائية من الإدارة الأمريكية القادمة ومنها قرار بإلغاء ورقة المائة دولار قبل أن تنهار قيمتها بشكل حاد مثلما فعلت روسيا في أزماتها المالية في التسعينات.
استقلال الولايات
وحول انهيار وتفتيت الولايات المتحدة مثلما حدث مع الاتحاد السوفييتي، يقول البروفيسور بنارين لصحيفة إزفستيا "الأمر ليس خيالاً، فقط الإعل=D 8م الأمريكي الخارجي يخفي الكثير مما يحدث من اضطرابات داخل الولايات المتحدة، لقد شرحت لهم هذا الأمر في مؤتمر فيينا، وقلت إن الولايات المتحدة تتكون من ستة أجزاء كبيرة، وهناك أجزاء غنية بثرواتها الطبيعية الهائلة وأجزاء فقيرة وتسكنها تجمعات سكانية كبيرة تعيش عالة على هذه الأجزاء الغنية، وهناك جزء على ساحل المحيط الهادئ يسيطر عليه الصينيون وخاصة في سان فرانسيسكو التي يسمونها بوابة الصين إلى أمريكا، وكان هناك حاكم لولاية واشنطن من أصل صيني هو جاري فاي لوك الذي انتخب مرتين ويمتلك الصينيون أكثر من نصف اقتصاد هذه المنطقة، وهناك جزء في الجنوب يسيطر عليه المكسيكيون وتسود فيه اللغة الإسبانية ويعتبره المكسيكيون خاضعاً للاحتلال الأمريكي، وهناك ولاية تكساس الكبيرة الغنية بالنفط والتي تنتشر فيها الجماعات والتنظيمات التي تطالب وتناضل من أجل استقلالها20عن الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة مضت، وفي الساحل الأطلسي ووسط أمريكا خمس ولايات فقيرة تسكنها غالبية من الهنود الحمر الذين سبق لهم أن أعلنوا استقلالهم أكثر من مرة وكان يُتعامل مع هذا الأمر بسخرية وعدم اهتمام، وهناك شمال الولايات المتحدة يخضع للنفوذ الكندي وتسوده قوانين كندية، وهذه التقسيمات والأجزاء كانت تبدو من بعيد هادئة، ولكن تفاقم الأزمة المالية والانهيار الاقتصA 7دي سيفجر قضايا الاستقلال في هذه الأجزاء مرة واحدة، ولن تقبل الولايات الغنية خروج ثرواتها للولايات الفقيرة، وعندها سترحب ولاية ألاسكا بالعودة للوطن الأم روسيا باعتبارها أرضاً مستأجرة بعقد امتياز منتهية مدته".
2009 الأصعب
هذا السيناريو الذي يطرحه البروفيسور بنارين، والذي يبدو للكثيرين خياليا يجد له أنصاراً كثيرين يؤيدوه في روسيا والصين وأوروبا، حيث يتوقع كبار الخبراء الاقتصاديين ألا تخرج الولايات المتحدة من هذه الأزمة المالية سالمة ولا بعد أعوام، وأن هذه الأزمة تختلف تماما عن سابقاتها في لتاريخ لأنها تأتي في ظل العولمة ونظام مالي واقتصادي عالمي ومتشعب لا يمكن حصر ثغراته وأمراضه المستعصية، وأن هذه الأزمة ستكون من الخطورة والضخامة التي لا يمكن توقع أبعادها وتداعياتها، وكما قال رئيس القسم الاقتصادي في صندوق النقد الدولي البروفيسور أوليفيه بلانشار في الاجتماع السنوي للصندوق في واشنطن في نهاية أكتوبر الماضي "بلا شك فإن الاقتصاد العالمي يواجه أزمة حادة لم يره ا من قبل، والعام القادم 2009 سيكون الأصعب في تاريخ الدول، وخاصة الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة التي ستواجه حالة كساد قاتمة ستبدأ العام القادم ويصعب تحديد متى وكيف ستنتهي".
يختم البروفيسور الروسي بنارين حديثه لصحيفة إزفستيا قائلا "إنني أنصح روسيا والصين وكل دولة تريد أن تفلت من الانهيار بأ6 تفك ارتباطاتها بسرعة بالدولار الأمريكي الذي سينهار للحضيض"، ويقول "على الدول المرتبطة بالاقتصاد الأمريكي أن تقطع حبالها بتيتانيك وتنجو بنفسها قبل أن تغرق معها".
أيا كان تصورنا لما يقوله البروفيسور الروسي بنارين الذي توقع الأزمة المالية الحالية منذ عشرة أعوام وحدد موعدها في مؤتمر دولي، فإن الأمر لا يخلو من الجد ويستحق من الجميع الحذر الشديد، ولا يجب أن ينتظر أحد ماذا سيحدث هناك عبر الأطلسي ليقدم رد الفعل عليه، بل على الجميع، ونحن العرب على رأسهم، أن نبادر بالفعل قبل أن تمتلئ قوارب الإنقاذ ولا نجد لنا فيها مكاناً.