:: بقلم: حسين المعاضيدي ::
ماذا لو مات أبي، أخي، أبني مع أنني لم أصبح أباً بعد، كيف سأتصرف حينها، وكيف ستكون ردة فعلي، أأبكي، أتدمع عيناي، أيجن جنوني، كيف سأتصرف، وكيف سأتجاوز محنتي،
أسئلة تخطر على بالي كثيراً، في يقظتي ومنامي، وفي كل مرة أقول لنفسي، دع كل شيء لوقته وزمانه.
تساؤلاتي هذه الدائمة الحضور، لا تزال على الدوام رفيقتي بعد أن أصبح كل شيء من حولي بلا حضور، وبلا معنى، فمن فقد وطنه يرى العالم من حوله بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وهذا حال كل عراقي، ممن فقدوا وطنهم وعراقهم بعد أن احتله الإميركان، فباتوا ضيوفاً ثقيلي الظل على بيوتاتهم، أما المضيف الأجنبي فبات هو صاحب الدار الآمر الناهي فيها والذي يجب ان يطاع.
شتات عوائلنا تناثرت هنا وهناك، وأصبح الابن لا يرى أباه والأم لا ترى وليدها، والزوجة في وادٍ والزوج في واد، والكل يعيش في عالم بعيد عن الآخر حتى بتنا حينما يرى أحدنا الثاني لا يكاد يتعرف عليه نتيجة تأثيرات الاحتلال التي تركت أثارها على كل واحد منا.
استوقفت وراجعت حساباتي، وحسابات الموت والحياة عندي، ومعادلات الخوف من فقدان الأم أو الأب أو الابن أو الأخ، بل وفقداني للحياة نفسها، ونقطة التحول عندي كانت علامتها الفارقة موقف صديق وأخ لي، لم تلده أمي.
حكاية صديقي وأسمه (عبد القيوم) بدأت يوم قتل والده غدراً على يد المليشيات الكردية في مدينة جلولاء بمحافظة ديالى، فحينما وصلني خبر مقتل والده، وضعت نفسي مكانه في الحال، لكني سرعان ما عدت وتراجعت، فمن الصعب علي حتى وضع نفسي في محله، لأنني استصعبت الأمر حتى أثناء تخيلاتي، ففقدان الوالد وترك حمل ثقيل على كاهل الابن شيء ليس بالأمر اليسير، ولا يشعر بصعوبته إلا من ذاق مرارته، لكن الأمرّ من تلك المرارة، والأكثر مأساوية، هو أن الأب قتل وانتقل لعالم آخر، والابن بعيد عنه، ولم يره، ولم يطبع على يديه قبلة البِرّ، بل ولم يستطع حتى حضور جنازته أو تشيعه ولحظات دفنه أو حضور عزائه، فالابن في مكان، والأب كان بعيداً عنه في مكان آخر، ويصعب التواصل، وهنا أصبح الأمر كالجحيم الذي لا يطاق، من وجهة نظري على الأقل!
حاولت أن لا اتصل بصديقي ليلتها، لأنني لو كنت في مكانه بالتأكيد سأكون في حالة يرثى لها، ولن أتمكن حتى من استقبال المعزين، لكني فوجئت، وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي أن صديقي هو من يطرق بابي حاملاً بيده علبة الحلويات بوجه بشوش، تشوبه فرحة بارزة، وحزن خفي، لم يتمكن من إخفائه، رغم السن الضاحك والمبتسم!
احترت وأنا استقبله، أأقدم التعازي له أم التهاني، فهو من بادر إلى زيارتي، وهو من يقدم لي الحلويات، وأبوه من قتل، وهو من يحتفي بشهادة والده .. فقدمت له التهاني بدل التعازي.
موقف صديقي (عبد القيوم)، أبن شهيد ديالى، ذكرني بمواقف كثيرة سمعت بعضها وشهدت بعضها الآخر، منها يوم أقدم قريب لي على مهاجمة قاعدة للقوات المحتلة اخترقها بسيارة حمل كبيرة محملة بالمتفجرات فجرها مع جسده الغض، فدمر حينها عشرات الآليات وعشرات القتلى في صفوف القوات المحتلة، التي كانت متجمعة بشكل غير نظامي، وكيف زغردت أمه وتهللت أساريرها وهي توزع العصائر والحلويات على الجيران لاستشهاد ولدها الثاني منفذ العملية، والذي قتل بذات الطريقة التي قتل فيها أخوه الأول، الذي أستهدف بسيارة مفخخة آليتين للمحتلين في المدينة التي كان يسكن فيها.. أما الأب المكلوم بكلا ولديه فقد علق لافتة كتب عليها (مرحباً بالمهنئين فقط)!!
عادت بي الذاكرة كذلك إلى أيام اعتقالي، وكيف أن أحد زملائي في المعتقل فرح فرحاً شديداً على خبرٍ وصله مفاده أن أثنين من أخوته وأباه قتلوا نتيجة مقاومتهم للمحتل الأميركي.. وحكاية زميلي هذا تبدأ يوم عاد من كندا مع أخوته بعد احتلال العراق وهو الذي ولد في كندا وتربى فيها وعاش أيام صباه قبل أن يقرر الوالد العودة مع عائلته، حينما وجد أن بلده الذي هجره منذ زمن بعيد بحاجة إليه ولأولاده، فقفل راجعاً وألتحق مع أولاده الثلاثة في المقاومة في مدينة الموصل، وذات يوم خرج الأب وأولاده الثلاثة واشتركوا في معركة حامية مع القوات المحتلة فقتل الأب، واعتقل زميلي وعاد أخوته المتبقين إلى أمهم، وحينما وجدتهم الأم بلا أبيهما ولا أخيهما الأكبر، أقسمت عليهما أن لا يعودا إليها إلا وهما شهيدان، وماهي سوى أيام حتى وصل خبر استشهادهما إلى الأم، بعد أن استقل أحدهما شاحنة محملة بالمتفجرات ودخل في قاعدة للمحتلين كانت هي الأشهر في تاريخ العمليات الاستشهادية في مدينة الموصل، فحصد من جنود الاحتلال وآلياتهم مالم يفعله احد من قبل في عملية شهيرة جداً..
أما أخوه الثاني فقد استقل سيارة صغيرة وفجرها مع جسده في رتل للقوات المحتلة على طريق موصل _ تلعفر فدمر زيلاً للمحتلين كان محملاً بالجنود الإميركان، فكسر ظهر ذلك الرتل، وحينما وصل خبر استشهاد الولدين إلى أمهما التي لم يتبق معها في البيت سوى ابنة صغيرة راحت تسقي الناس مختلف أنواع العصائر وتوزع الفطائر والمعجنات، وأقامت مجالس للفرح في بيتها وأخذت تستقبل النسوة المهنئات، في الوقت الذي كانت تعلن النفير فيما لو فكرت أحداهن في تعزيتها، وكانت تقول (أبني المعتقل نذري الأخير لهذا الدين ولهذا البلد)!
زميلي الذي كان يشاركني نفس الزنزانة في المعتقل اخذ يستقبل المهنئين بعد أن أبلغ الجميع في وقت التعداد الصباحي للمعتقلين بأنه سيستقبل المهنئين فرحاً باستشهاد أباه وإخوانه، وأنه لن يرحب بغير المهنئين.
أيها المحتلون والمليشياويون على اختلاف نحوركم، وقومياتكم، وأجناسكم، وجنسياتكم، هؤلاء هم العراقيون، وتلك عقيدة المسلمين، فأي قوم تحاربون؟!!
ماذا لو مات أبي، أخي، أبني مع أنني لم أصبح أباً بعد، كيف سأتصرف حينها، وكيف ستكون ردة فعلي، أأبكي، أتدمع عيناي، أيجن جنوني، كيف سأتصرف، وكيف سأتجاوز محنتي،
أسئلة تخطر على بالي كثيراً، في يقظتي ومنامي، وفي كل مرة أقول لنفسي، دع كل شيء لوقته وزمانه.
تساؤلاتي هذه الدائمة الحضور، لا تزال على الدوام رفيقتي بعد أن أصبح كل شيء من حولي بلا حضور، وبلا معنى، فمن فقد وطنه يرى العالم من حوله بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وهذا حال كل عراقي، ممن فقدوا وطنهم وعراقهم بعد أن احتله الإميركان، فباتوا ضيوفاً ثقيلي الظل على بيوتاتهم، أما المضيف الأجنبي فبات هو صاحب الدار الآمر الناهي فيها والذي يجب ان يطاع.
شتات عوائلنا تناثرت هنا وهناك، وأصبح الابن لا يرى أباه والأم لا ترى وليدها، والزوجة في وادٍ والزوج في واد، والكل يعيش في عالم بعيد عن الآخر حتى بتنا حينما يرى أحدنا الثاني لا يكاد يتعرف عليه نتيجة تأثيرات الاحتلال التي تركت أثارها على كل واحد منا.
استوقفت وراجعت حساباتي، وحسابات الموت والحياة عندي، ومعادلات الخوف من فقدان الأم أو الأب أو الابن أو الأخ، بل وفقداني للحياة نفسها، ونقطة التحول عندي كانت علامتها الفارقة موقف صديق وأخ لي، لم تلده أمي.
حكاية صديقي وأسمه (عبد القيوم) بدأت يوم قتل والده غدراً على يد المليشيات الكردية في مدينة جلولاء بمحافظة ديالى، فحينما وصلني خبر مقتل والده، وضعت نفسي مكانه في الحال، لكني سرعان ما عدت وتراجعت، فمن الصعب علي حتى وضع نفسي في محله، لأنني استصعبت الأمر حتى أثناء تخيلاتي، ففقدان الوالد وترك حمل ثقيل على كاهل الابن شيء ليس بالأمر اليسير، ولا يشعر بصعوبته إلا من ذاق مرارته، لكن الأمرّ من تلك المرارة، والأكثر مأساوية، هو أن الأب قتل وانتقل لعالم آخر، والابن بعيد عنه، ولم يره، ولم يطبع على يديه قبلة البِرّ، بل ولم يستطع حتى حضور جنازته أو تشيعه ولحظات دفنه أو حضور عزائه، فالابن في مكان، والأب كان بعيداً عنه في مكان آخر، ويصعب التواصل، وهنا أصبح الأمر كالجحيم الذي لا يطاق، من وجهة نظري على الأقل!
حاولت أن لا اتصل بصديقي ليلتها، لأنني لو كنت في مكانه بالتأكيد سأكون في حالة يرثى لها، ولن أتمكن حتى من استقبال المعزين، لكني فوجئت، وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي أن صديقي هو من يطرق بابي حاملاً بيده علبة الحلويات بوجه بشوش، تشوبه فرحة بارزة، وحزن خفي، لم يتمكن من إخفائه، رغم السن الضاحك والمبتسم!
احترت وأنا استقبله، أأقدم التعازي له أم التهاني، فهو من بادر إلى زيارتي، وهو من يقدم لي الحلويات، وأبوه من قتل، وهو من يحتفي بشهادة والده .. فقدمت له التهاني بدل التعازي.
موقف صديقي (عبد القيوم)، أبن شهيد ديالى، ذكرني بمواقف كثيرة سمعت بعضها وشهدت بعضها الآخر، منها يوم أقدم قريب لي على مهاجمة قاعدة للقوات المحتلة اخترقها بسيارة حمل كبيرة محملة بالمتفجرات فجرها مع جسده الغض، فدمر حينها عشرات الآليات وعشرات القتلى في صفوف القوات المحتلة، التي كانت متجمعة بشكل غير نظامي، وكيف زغردت أمه وتهللت أساريرها وهي توزع العصائر والحلويات على الجيران لاستشهاد ولدها الثاني منفذ العملية، والذي قتل بذات الطريقة التي قتل فيها أخوه الأول، الذي أستهدف بسيارة مفخخة آليتين للمحتلين في المدينة التي كان يسكن فيها.. أما الأب المكلوم بكلا ولديه فقد علق لافتة كتب عليها (مرحباً بالمهنئين فقط)!!
عادت بي الذاكرة كذلك إلى أيام اعتقالي، وكيف أن أحد زملائي في المعتقل فرح فرحاً شديداً على خبرٍ وصله مفاده أن أثنين من أخوته وأباه قتلوا نتيجة مقاومتهم للمحتل الأميركي.. وحكاية زميلي هذا تبدأ يوم عاد من كندا مع أخوته بعد احتلال العراق وهو الذي ولد في كندا وتربى فيها وعاش أيام صباه قبل أن يقرر الوالد العودة مع عائلته، حينما وجد أن بلده الذي هجره منذ زمن بعيد بحاجة إليه ولأولاده، فقفل راجعاً وألتحق مع أولاده الثلاثة في المقاومة في مدينة الموصل، وذات يوم خرج الأب وأولاده الثلاثة واشتركوا في معركة حامية مع القوات المحتلة فقتل الأب، واعتقل زميلي وعاد أخوته المتبقين إلى أمهم، وحينما وجدتهم الأم بلا أبيهما ولا أخيهما الأكبر، أقسمت عليهما أن لا يعودا إليها إلا وهما شهيدان، وماهي سوى أيام حتى وصل خبر استشهادهما إلى الأم، بعد أن استقل أحدهما شاحنة محملة بالمتفجرات ودخل في قاعدة للمحتلين كانت هي الأشهر في تاريخ العمليات الاستشهادية في مدينة الموصل، فحصد من جنود الاحتلال وآلياتهم مالم يفعله احد من قبل في عملية شهيرة جداً..
أما أخوه الثاني فقد استقل سيارة صغيرة وفجرها مع جسده في رتل للقوات المحتلة على طريق موصل _ تلعفر فدمر زيلاً للمحتلين كان محملاً بالجنود الإميركان، فكسر ظهر ذلك الرتل، وحينما وصل خبر استشهاد الولدين إلى أمهما التي لم يتبق معها في البيت سوى ابنة صغيرة راحت تسقي الناس مختلف أنواع العصائر وتوزع الفطائر والمعجنات، وأقامت مجالس للفرح في بيتها وأخذت تستقبل النسوة المهنئات، في الوقت الذي كانت تعلن النفير فيما لو فكرت أحداهن في تعزيتها، وكانت تقول (أبني المعتقل نذري الأخير لهذا الدين ولهذا البلد)!
زميلي الذي كان يشاركني نفس الزنزانة في المعتقل اخذ يستقبل المهنئين بعد أن أبلغ الجميع في وقت التعداد الصباحي للمعتقلين بأنه سيستقبل المهنئين فرحاً باستشهاد أباه وإخوانه، وأنه لن يرحب بغير المهنئين.
أيها المحتلون والمليشياويون على اختلاف نحوركم، وقومياتكم، وأجناسكم، وجنسياتكم، هؤلاء هم العراقيون، وتلك عقيدة المسلمين، فأي قوم تحاربون؟!!