عالمة الطب "لحاظ الغزالي" لا تشبه الوردة، بل الوردة تشبهها. اجتذبت عدسات المصورين في حفل الاستقبال الذي أقامه الرئيس الفرنسي ساركوزي في قصر الإليزيه بباريس لنساء العلم الفائزات بجائزة "لوريال اليونسكو" عام 2008. وتوجع القلب صورتها، وهي تقف مكتوفة الذراعين، وحيدة في ركن من قصر الإليزيه. ما الذي شدّ إليها عدسة المصور الفوتوغرافي؟.. وحدتها الموحشة، أم بهاؤها العراقي الذي يلتقي فيه أجمل ما في الظلمة والنور؟
وتعتبر "اليونسكو- لوريال" التي تبلغ قيمتها مائة ألف دولار، أرفع الجوائز المخصصة لنساء العلم. وفازت بها العالمة العراقية لنجاح فريقها العلمي في مسح وتشخيص جينات "مورثات" تؤدي إلى علل وراثية، وأطلق لقبها "الغزالي" على اثنين من العلل الجينية غير المعروفة قبلا.
تخرجت الغزالي من كلية الطب بجامعة بغداد، وتخصصت بطب الأطفال والجينات في جامعة "أدنبره" في بريطانيا. والتحقت عام 1990 للتدريس في "كلية الطب" بجامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العين، حيث نالت درجة الأستاذية، وأسست أول مكاتب طبية في المنطقة لرصد وتسجيل وعلاج التشوهات الخَلقية، التي يكثر وجودها بسبب انتشار الزيجات بين القربى. وأثارت بحوثها المنشورة، ويبلغ عددها 150 بحثاً، اهتمام الأوساط الطبية العالمية، وأفردت لها المجلة الطبية "لانسيت" Lancet صفحة التعريف بمشاهير الأطباء، واعتبرتها مصدراً مهماً عن الأمراض الجينية في العالم العربي.
لماذا تغيب لحاظ الغزالي عن العراق الذي يحتاج لخدماتها أكثر من أي بلد في العالم؟ البحث عن جواب لهذا السؤال يقود إلى اكتشاف غياب عدد من ألمع نساء العراق في الطب والعلوم والفنون والآداب. وهذه مفارقة غريبة. فالعراق يتصدر الدول العربية في نسبة النساء في البرلمان، حيث يمثلن ربع عدد أعضائه، حسب الدستور الحالي. ويعادل عدد الطالبات الطلاب في كثير من الجامعات والكليات، خصوصاً في الفروع العلمية، حيث يفوق عددهن الطلاب في بعض كليات الطب، وطب الأسنان، والصيدلة. لكن عندما تشاهد في الفضائيات تقارير عن الاجتماعات الرسمية في بغداد، لا تملك إلاّ أن تتساءل: أين نساء العراق؟
وأشد نساء العراق غياباً عنه، نابغات أنفقن من مالهن وغامرن بحياتهن لتحقيق مشاريع لخدمة البلد. تعرض دور السينما في لندن هذا الأسبوع فيلماً وثائقياً للمخرجة العراقية ميسون الباججي عنوانه "عدسات مفتوحة". وهو واحد من 11 فيلماً وثائقياً أنتجتها الباججي وتلاميذها في "كلية السينما والتلفزيون" التي أنشأتها بالمشاركة مع المخرج السينمائي قاسم عبد في بغداد عام 2004. وتعرض بعض مصوري هذه الأفلام لمحاولات اغتيال، وأصيب بعضهم بجروح خطيرة، واغتيل أفراد من عوائلهم. واضطرت الكلية التي دربت ثمانين فنياً ومخرجاً سينمائياً إلى غلق أبوابها عام 2007 والانتقال إلى دمشق.
ولا أعلم أي شيطان نزق في قلبي دفعني إلى سؤال ميسون الباججي خلال أمسية عشاء مع أصدقاء في لندن "هل تبكين على العراق؟".. أجابت: "كلما أدعى للحديث عنه"... وهل تكف عن الحديث عنه في أحلامها؟.. شعرت بالخجل من سؤالي كمن يتطفل على أسرار شخصية.
وبين نابغات العراق الغائبات امرأة لا وجود لها إلاّ في مخيلة جيمس هاول، وهو كاتب وسياسي إنجليزي من القرن السابع عشر قال: "شعرة من امرأة يمكن أن تجرّ مائة زوج من الثيران"! المهندسة المعمارية زهاء حديد فعلت أكثر من ذلك حين نالت، وهي امرأة عربية ومسلمة وعراقية، لقب "سيدة العمارة العالمية".
كم عدد الثيران التي يمكن أن تجر متاحف وجامعات وجسور فازت زهاء حديد بإنشائها في لايبزغ، وولسبرغ، وروما، وتايشونغ، وموسكو، وبراتسفيل، وسنسناتي، ونابولي، ومونتريال، وأبوظبي؟.. "إنه عمل امرأة تجمعت لديها مفاصل العمارة العالمية في السنوات الأخيرة، وهي امرأة عربية، استطاعت أن تحدد التطورات والمفاهيم التي على العمارة مواجهتها، وهذا بحد ذاته أمرٌ مدهش، وربما لم يشاهد قطُ في تاريخ العمارة من قبل". ذكر ذلك أودو كلترمان، أستاذ العمارة في "جامعة واشنطن" في ميسوري في بحث عن زهاء حديد عنوانه "رؤى القرن الحادي والعشرين".
ولا يغيب شخص عن مكان أو حيّز أو فضاء، كغياب زهاء حديد عن العراق. والمكان والحيّز والفضاء هي مرادفات ترجمة كلمة space التي لم أستطع أن أختار بينها منذ قالت لي قبل نحو عشر سنوات أنه شغلها الشاغل. مسافة نصف قرن تفصلها عن بغداد التي فتحت عينيها عليها في خمسينيات القرن الماضي. تحدثت عن ذلك في برنامج "عالم اليوم" في تلفزيون "بي بي سي"، وقالت: "كانت المدينة تملك من المال والثقة بالنفس ما يكفي لتوصية معماريين عالميين عظماء، كوالتر غروبيوس، بتصميم نصب معمارية عظيمة مثل جامعة بغداد".
ولا يقتصر غياب نساء العراق النابغات على وجودهن خارج البلد، بل يغيب حضورهن داخله. وأغرب ما في مفارقة الغياب أن العراق هو الهم اليومي لمعظمهن، ليس فقط كاهتمام عام، أو اختصاص محدد، بل كمعنى لوجودهن، وكينونتهن.
زينب الاسترابادي، مديرة قسم اللغة العربية في "جامعة إنديانا" بالولايات المتحدة، دُعيت هذا العام كباحثة مسلمة للصلاة في الاجتماع التذكاري السنوي لزعيم حركة تحرير السود في الولايات المتحدة مارتن لوثر كينغ. وفاجأت الاسترابادي اللجنة المنظمة للمؤتمر، الذي يغلب عليه الطابع الديني وروح التسامح بين العقائد المختلفة بطلب كلمة. والله يعلم من أين جاءت الروح الزنجية لهذه الباحثة، التي جاءت إلى الولايات المتحدة عام 1970 وهي طفلة برفقة أمها المبعوثة لدراسة الدكتوراه. انطلقت بلهجة زنجية حادة متميزة بذكر شتائم توجه ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة. وقالت للحضور إنها تتحدث عادة كامرأة أو إنسان، لكنها تخاطبهم اليوم "كامرأة مسلمة محتشمة، كعربية محتشمة، كعراقية محتشمة". وسردت جرائم التعذيب والقتل وتقطيع الأطراف التي تقوم بها جيوش الغرب بزعامة الولايات المتحدة ضد العراقيين والعرب والمسلمين.
وتغيب عن العراق أبرز الباحثات في الروح العراقية، شهرزاد قاسم حسن، المعروفة على الصعيد العالمي بدراساتها في أنثروبولوجيا الموسيقى العراقية، والروائية عالية ممدوح التي ترجمت روايتها "حبّات النفتالين" إلى سبع لغات عالمية، وفازت روايتها "المحبوبات" بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عام 2004.
ولا يغيب العراق حتى عن أحلام يقظة الروائية والكاتبة السياسية هيفاء زنكنة، التي تقاوم الاحتلال بمقالاتها ودراساتها وكتبها المنشورة بالعربية والإنجليزية، كذلك برواياتها ورسومها، وندواتها، ومشاريعها، التي تنفق عليها من جيبها. وقد روت لي بعض أحلام اليقظة التي تشنها ضد المتعاونين مع الاحتلال، وأنا أصدّقها، وأتوقع يومياً أن تنقل أخبارها الفضائيات. من يجرؤ أن لا يصدق فتاة موشومة الكف من قبائل "زنكنة" التي حكمت قرونا عدة إمارة كردية تحمل اسمها على الحدود الإيرانية العراقية؟.. مع هيفاء زنكنة "لا تيأس حتى من حقيقة أنك لا تيأس"، كما يقول فرانز كافكا!